النموذج التنموي بالصحراء يُعزز شرعية الحكم الذاتي ويرسّخ العدالة المجالية

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة

أجمع عدد من المتدخلين في ندوة وطنية حول موضوع “الصحراء المغربية: من شرعية التاريخ إلى رهانات المستقبل”، احتضنتها مدينة العيون أمس السبت، أن النموذج التنموي المعتمد بالأقاليم الجنوبية للمملكة يشكل رافعة حقيقية لتحقيق العدالة المجالية، وإرساء تنمية مستدامة ترتكز على تكامل البنية التحتية وتعزيز الرأسمال البشري.

وأكد المشاركون في هذا اللقاء الذي نظمته مجموعة العمل الموضوعاتية المؤقتة بمجلس المستشارين المكلفة بتقديم الاستشارة حول “القضية الوطنية الأولى: الوحدة الترابية للمملكة”، على أن مبادرة الحكم الذاتي التي تقدم بها المغرب تمثل الإطار الواقعي والعملي لتسوية النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، مؤكدين ضرورة مواصلة الترافع بشأنها إقليميا ودوليا باعتبارها حلا سياسيا متقدما يستجيب لتطلعات الساكنة المحلية ضمن سيادة المملكة ووحدتها الوطنية.

“رؤية تنموية”

قال الدكتور الطالب بويا زايدنا ماء العينين، باحث مهتم بالشؤون التنموية الجهوية، إن النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية يشكل ورشا استراتيجيا يعكس تحولا عميقا في منطق التدبير الترابي، حيث أصبح الرهان منصبا على تحقيق تنمية شاملة ومندمجة تستند إلى مرتكزات العدالة المجالية، والنجاعة المؤسساتية، ومقاربة تشاركية تجعل من المواطن قطب الرحى في السياسات العمومية، انسجاما مع التوجيهات الملكية التي دعت إلى بناء جهوية متقدمة تعيد التوازن بين المركز والجهات.

وأكد الباحث ذاته، في مداخلته خلال الجلسة العلمية للندوة الوطنية المنظمة بمدينة العيون تحت شعار “الصحراء المغربية: من شرعية التاريخ إلى رهانات المستقبل”، أن السياق العام الذي انطلقت فيه هذه الدينامية التنموية كان مؤطرا بإرادة سياسية قوية، عبر عنها بوضوح الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى 47 للمسيرة الخضراء، حيث تم الإعلان عن تخصيص غلاف مالي هام، بلغت نسبة إنجازه 80%، لمشاريع مهيكلة تستهدف تقليص الفوارق المجالية وتعزيز البنية التحتية.

وأوضح زايدنا أن من أبرز مداخل استدامة هذا النموذج، ضرورة توظيف الخصوصيات الترابية والموارد الطبيعية التي تزخر بها المنطقة، عبر تأهيل الفضاءات الحدودية والمجال الصحراوي الأطلسي، واستثمار الشريط الساحلي في مشاريع اقتصادية ذات قيمة مضافة، ترتكز على تنويع الاقتصاد المحلي وتثمين الثروات البحرية والطاقية.

ولفت الإطار بمجلس جهة العيون الساقية الحمراء الانتباه إلى أهمية تنزيل الميثاق الوطني للاتمركز الإداري، وتحديد حد أدنى من الاختصاصات المنقولة إلى الجهات، بهدف تمكينها من امتلاك ناصية القرار التنموي، وإرساء منظومة حكامة ترابية تتقاطع فيها الكفاءة التدبيرية مع الفعالية المؤسساتية، مع دعوته إلى تقليص تعدد الانتدابات ومراجعة منظومة الجبايات المحلية بما يضمن إنصافا ماليا ومردودية فعلية.

وشدد المتدخل ذاته على أن الرهان اليوم لم يعد فقط على تشييد البنيات والمنشآت، بل على بناء الإنسان وتأهيل الكفاءات المحلية، من خلال تحفيز المبادرة الفردية وتوسيع قاعدة المقاولة الصغرى والمتوسطة، مع إيلاء أهمية خاصة للقطاع الثالث باعتباره رافعة أساسية لتعزيز الاندماج الاجتماعي وخلق فرص الشغل.

وأنهى الطالب بويا ماء العينين مداخلته بالتأكيد على أن تكريس النموذج التنموي في الأقاليم الجنوبية لن يتحقق إلا بترسيخ جهوية فعلية تنبني على تفويض حقيقي للاختصاصات، وتحقيق التراكم المؤسساتي، وبلورة رؤية متكاملة تستثمر في رأس المال اللامادي والثقافي والبيئي، في انسجام تام مع خصوصيات المنطقة ورهاناتها الاستراتيجية.

“صيغة متقدمة”

من جانبه، أكد الدكتور مولاي بوبكر حمداني، رئيس مركز التفكير الاستراتيجي والدفاع عن الديمقراطية، أن المبادرة المغربية للحكم الذاتي تعد نموذجا قانونيا وسياسيا متقدما لحل النزاعات الترابية، يجمع بين متطلبات الشرعية الدولية ومحددات السيادة الوطنية، ويؤسس لمدخل عملي لترسيخ السلم والاستقرار في إفريقيا، مشددا على أنها ليست تنازلا عن السيادة، بل تمثل تجسيدا مرنا لممارستها على ضوء تحولات القانون الدولي المعاصر.

وأوضح حمداني، في مشاركته بالجلسة الموضوعاتية الخاصة بالقانون الدولي ومبادرة الحكم الذاتي، أن المبادرة التي قدمتها المملكة سنة 2007 لا تنحصر في بعدها السياسي الظرفي، بل تشكل صرحا مؤسسا على منطلقات سيادية صلبة، تعزز التماسك الداخلي وتحاكي في هندستها عددا من النماذج الدولية الناجحة، من قبيل جزر آلاند الفنلندية، وإقليم الباسك الإسباني، وكيبيك الكندية، مع تقديمها خصوصيات ابتكارية تتماشى مع الواقع التاريخي والاجتماعي للأقاليم الجنوبية.

وأبرز المتحدث أن المبادرة المغربية تنص بشكل دقيق على توزيع متوازن للاختصاصات بين المركز والجهة، حيث تحتفظ الدولة بالصلاحيات السيادية الجوهرية، في حين تمنح الجهة سلطات واسعة في تدبير الشأن المحلي والتنمية والموارد، مع إمكانية إحداث شرطة محلية، وإرساء مؤسسات منتخبة، وبرلمان جهوي يعكس التعددية القبلية والسوسيو-ثقافية؛ وهو ما يمنحها شرعية ديمقراطية وتنموية تتجاوز المفهوم التقليدي للحكم الذاتي، على حد تعبيره.

وفي سياق مقارن، سجل حمداني أن المقترح المغربي يتفوق على نماذج أوروبية متقدمة من حيث صلابة الضمانات ووضوح الرؤية، مشيرا إلى أن إشراك الساكنة المحلية عبر الاستفتاء، وتحويل عائدات الثروات الطبيعية لفائدة الجهة، أمران يعكسان تحولا جذريا في فلسفة تدبير النزاعات، من منطق الإقصاء والانفصال إلى منطق “التكامل ضمن التنوع”.

وأضاف رئيس مركز التفكير الاستراتيجي والدفاع عن الديمقراطية أن المبادرة المغربية تنسجم مع التحولات المفاهيمية في القانون الدولي، الذي بات يفضل منطق “تقرير المصير الداخلي التوافقي” بدل الدعوات الانفصالية، لافتا إلى أن “نجاح هذا النموذج من شأنه أن يسهم في بناء مقاربة إفريقية جديدة لتسوية النزاعات، قوامها الحوار والواقعية والحلول السياسية التوافقية، بعيدا عن منطق التفكيك والبلقنة الذي يهدد استقرار القارة”.

وسجل الدكتور مولاي بوبكر حمداني في ختام مداخلته أن الحكم الذاتي كما تقترحه المملكة، ليس فقط مدخلا لحل نزاع إقليمي طال أمده، بل مشروع استراتيجي وطني بامتداد قاري، يحمل في طياته مقومات الاستقرار والتنمية والحكامة، ويستحق أن ينظر إليه كنموذج متفرد في القرن الحادي والعشرين.

“حق لا يعلى عليه”

بدوره، شدد الدكتور الموساوي العجلاوي، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة محمد الخامس، على أن قضية الصحراء بالنسبة للمغرب تمثل “حقا يعلو ولا يعلى عليه”، موردا أن “مجلس الأمن الدولي بات يتجه، بشكل متسارع، نحو اعتبار مبادرة الحكم الذاتي التي تقدم بها المغرب سنة 2007 حلا جوهريا ووحيدا للنزاع المفتعل”.

واعتبر العجلاوي أن النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية ذو طبيعة إقليمية بالأساس، مذكرا بأن المغرب لا يفاوض على سيادته ولا على مغربية الصحراء، بل يتعامل مع الملف في إطار دينامية سياسية إقليمية تفرضها تدخلات أطراف أخرى، تختلف من حيث موقعها بين المراقب والمهتم والمعني المباشر، لافتا إلى أن “تواجد المغرب في أقاليمه الجنوبية يستند إلى الشرعية الدولية وميثاق الأمم المتحدة، مما يجعل المرافعة المغربية أقوى من أي وقت مضى، سواء على مستوى القانون الدولي أو من زاوية المشروعية التاريخية”.

وفي تحليله لأفق الحل السياسي، أوضح المتحدث أن مبادرة الحكم الذاتي تطرح اليوم كعرض سياسي متكامل يحمل جميع مقومات التسوية الواقعية، ويمثل إطارا مرنا يضمن حكما ذاتيا تحت السيادة المغربية. غير أن هذا العرض، يضيف العجلاوي: لا يمكن أن يتحول إلى “مخطط” إلا في حال قبول الأطراف الأخرى؛ وهو ما يفسر إصرار المملكة على التفاوض ضمن مقاربة ترتكز على الجدّية والواقعية.

كما توقع المتدخل أن يشهد الاجتماع المرتقب لمجلس الأمن تطورا لافتا في التعاطي مع مقترح الحكم الذاتي، مع ترجيحه استمرار بعض التحفظات من روسيا والصين، مقابل دعم قوي من الولايات المتحدة، فرنسا، والمملكة المتحدة، وهو ما اعتبره مكسبا دبلوماسيا مهما للمغرب، يعزز موقعه التفاوضي ويعمق عزل الأطروحة الانفصالية.

ودعا الخبير المغربي المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دي ميستورا، إلى استحضار التراكم التاريخي والحقوقي المرتبط بتدبير الأمم المتحدة لقضايا الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي، مذكرا بمساهمات المغرب في صياغة قرارين أمميين محوريين سنة 1959 عندما انتخب عضوا ممثلا لإفريقيا والعالم العربي، وكان حينها منخرطا في الدفاع عن قضايا التحرر، من بينها قضية سيدي إفني، والقضية الجزائرية، والقضية الفلسطينية.

وخلص العجلاوي إلى أن القراءة الدقيقة لهذا التراكم التاريخي يجب أن تشكل مرجعا ضروريا لفهم طبيعة النزاع، وتوجيه جهود التسوية ضمن مقاربة واقعية، تستند إلى المعطى القانوني وتعزز التراكم السياسي لصالح الطرح المغربي.

“آليات التنزيل”

سعيد التمسماني، محلل سياسي مغربي، ربط نجاح مشروع الحكم الذاتي المغربي بقدرته على التحول من مبادرة دبلوماسية إلى رؤية مجتمعية واضحة ومقبولة، تقوم على التواصل المبسط والناجع مع مختلف فئات المواطنين، وتنزيل تدريجي يراعي الخصوصيات المحلية ويعزز الانخراط الشعبي، مضيفا أن “قوة المشروع لا تكمن فقط في وجاهته السياسية والقانونية، بل في مدى تملكه من طرف الساكنة باعتباره أفقا عمليا لبناء جهوية متقدمة قائمة على الإنصاف والمسؤولية”.

وأكد التمسماني، في مداخلة معنونة بـ “مشروع الحكم الذاتي المغربي: من الفكرة إلى الواقع”، أن تقديم المشروع ينبغي أن يتجاوز لغة الوثائق القانونية، نحو خطاب تواصلي شعبي يتوجه إلى فئات المجتمع بلغتها الخاصة، موضحا أن “التعريف بالمبادرة الملكية يجب أن يعاد تصميمه ليلامس اهتمامات الشباب، النساء والنخب المحلية، ويربط المشروع بقيم الإنصاف، الكرامة والهوية المشتركة”.

ولفت المتحدث الانتباه إلى أن الحكم الذاتي يجب ألا يفهم باعتباره تفويضا كاملا، بل تقاسما عقلانيا للسلطة في إطار السيادة الوطنية الكاملة، داعيا في الوقت نفسه إلى وضع قانون تنظيمي واضح، وميثاق تعاقدي صريح بين الدولة والجهة، يحددان التزامات الطرفين وآليات الرقابة والمحاسبة، مع اعتماد مسار تدريجي للانتقال من الجهوية المتقدمة إلى الحكم الذاتي الكامل بناء على تصور مجتمعي تشاركي.

وشدد التمسماني على أن التمكين المجتمعي يظل شرطا أساسيا لنجاح أي مشروع مؤسساتي، مطالبا بإدماج موضوع الحكم الذاتي في المقررات الدراسية، وإشراك الأطر الصحراوية في بنائه، وتوظيف الإبداع الثقافي والإعلام المحلي في ترسيخ مضامينه لدى الرأي العام، مقترحا تنظيم أسبوع وطني سنوي للتعريف بالحكم الذاتي في مدينة العيون.

كما نبه إلى أن تنزيل المشروع يقتضي وجود ضمانات مؤسساتية، من قبيل مجلس دستوري جهوي، وتقارير دورية للبرلمان، وآليات لتتبع وتقييم الأداء، مشيرا إلى أن “التجربة المغربية في هذا الصدد يمكن أن تتحول إلى نموذج قاري إذا ما حظيت بالانخراط المجتمعي والتدبير الرشيد”.

وفي هذا السياق، ذكر سعيد التمسماني أن الحكم الذاتي هو في جوهره عقد اجتماعي جديد، يحتاج إلى الثقة والتدرج والتفاعل، مشددا على أن الرهان الحقيقي اليوم هو جعل المواطن جزءا من المشروع، لا مجرد متلق له، وذلك عبر إشراكه في صياغة السياسات الجهوية وإعطائه مكانة محورية في هندسة القرار الترابي.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق