لقاءٌ علميّ جمع الأركيولوجيا والتاريخ، حول الإسهام الممكن في كتابة تاريخ المغرب، وإعادة كتابة بعض فصوله بناء على مستجدات الاكتشافات العلمية، استقبله، الخميس بالرباط، المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب التابع لأكاديمية المملكة المغربية، مستضيفا المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث.
وفي تقديم عالم الآثار عبد الجليل بوزوكار الذي يدير المعهد الوطني الذي يخرّج علماء الأركيولوجيا، قال رحال بوبريك، مدير المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب: “نريد أن نؤسس لتقليد علمي مبني على الانفتاح والتعاون العلمي بين المعهد وبين المؤسسات العلمية الوطنية والدولية. ونتعاون في هذا اللقاء مع مؤسسة علمية وازنة، فرضت نفسها، خاصة في العقد الأخير (…) وطفرة البحث الأركيولوجي في المغرب تظهر حيوية التخصص بالبلاد، بفضل الأساتذة والباحثين والطلبة في المعهد، المتخصصين في حقل علمي يسهم في تأكيد حقائقَ، وإعادة النظر في أخرى، وإعادة كتابة التاريخ؛ فقد كشفت الأبحاث الأركيولوجية عن فصول غير معروفة في تاريخ المغرب؛ من بينها أقدم بقايا إنسان عاقل، في جبل إيغود، وهو ما أعاد النظر في الأصل الجغرافي للإنسان العالم. مع وجوب الاحتياط العلمي اللازم، لأن الاكتشافات العلمية المقبلة قد تعيد النظر في هذا المعطى عالميا؛ لكن ساهمت الأبحاث الأركيولوجية في فهم أعمق، يسهم في كتابة، أو إعادة كتابة، فصول غير معروفة من تاريخ المغرب”.
العلم والنقاش العمومي
في محاضرة بعنوان “الأركيولوجيا.. من التأسيس إلى المساهمة في كتابة تاريخ المغرب”، قال عبد الجليل بوزوكار، مدير المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث، إن “الأركيولوجيا ليست في تضاد مع علم التاريخ؛ بل كل منهما يكمل الآخر”، و”الأركيولوجيا لا ينبغي أن تنصاع إلا إلى الدقة والوثوقية العلمية، مع تقديم الجوانب المظلمة للنتائج أيضا. فلا توجد حقائق مطلقة، ولا نتائج مطلقة، وعلم الآثار يستعين بالفعل بالعلوم الدقيقة مثل الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا؛ لكن أسئلته تبقى أسئلة العلوم الاجتماعية والإنسانية”.
ودعا بوزوكار إلى “إيلاء الوثيقة الأركيولوجية الأهمية التي تستحقها في الكتابة التاريخية والمقررات الدراسية”، مدافعا عن التكامل بين التخصصات؛ فـ”لا تضاد ولا تنافر للأركيولوجيا مع التاريخ. ومن الواجب انتقاء الأصلح منها لإبرازه، خاصة في المقررات الدراسية”، مع تسجيله في هذا الباب “الحضور الضعيف للاكتشافات في المقررات الدراسية، ولو أنها موجودة في المقررات؛ لكن ليس بالشكل الذي نريده، مع غياب العدالة المجالية عند التطرق للتراث الثقافي”.
وعلى الرغم من تعدد المقاربات والمقاصد، فإن عالم الآثار سجّل كون مضامين الاكتشافات الأثرية موضوعا مطروحا في فضاءات التواصل الاجتماعي الرقمية، “وأحيانا تطرح بحدّة وشدّة”؛ وهو ما لم يعارضه، بل أبرز أنه عندما يكون متعلقا باستحضار آراء “زملاء“ أثريّين “يغني الموضوع من زوايا مختلفة”، مع تأكيده في محطّة لاحقة من المحاضرة، انطلاقا من “قولة حكيم أعرفه” أن “التاريخ لا ينبغي أن نخفيه، بل ينبغي أن نناقشه كاملا مهما كانت إيجابياته ومساوئه، لأن ما يُخفى مهما مرّ من الوقت سيعود ليصدم وجهنا”.
تاريخ الأركيولوجيا بالمغرب
اقترح عالم الآثار عبد الجليل بوزوكار تحقيبا لتاريخ المغرب مع علم الآثار؛ بدأه من سنة 1850 إلى سنة 1912 حين “ارتبطت الأبحاث بالاستعداد لاحتلال المغرب؛ وكانت الكثافة في الأبحاث في شرق المغرب مع بدايات القرن العشرين، لأن الجزائر كانت تحت الاحتلال الفرنسي، وكانت الأنظار متوجهة إلى المغرب لاحتلاله”، ثم كانت المرحلة الثانية بين سنتَي 1918 و1956؛ حيث بدأت مع “إنشاء مصلحة الآثار، واتساع رقة المنهجية العلمية. وهذا لا ينفي وجود أبحاث علمية قبل ذلك؛ بل يعني أن الأبحاث قد انطلقت ابتداء من هذا التاريخ من مؤسسة، فأخذ البحث شكلا رسميا”.
وثالثة المراحل تتراوح بين سنوات 1956 و1985، خلال “فترة مغربة الأطر؛ وهذا كان العنوان الأبرز في تلك الفترة. دون أن يعني هذا نزعة شوفينية للتخلص من الأطر التي وضعتها ‘الحماية’. والدليل هو أن العديد من الأطر المغربية قد بُعثت إلى الخارج، وخاصة فرنسا، لتعميق تكوينها”.
وقدّر خرّيج المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث، الذي أداره بعد ذلك، أنه “منذ سنة 1993، وليس الآن حقيقة، بدأنا طرح السؤال من داخل الأطر المغربية، حول محاولة التكيف مع الواقع المغربي فيما يتعلق بالمقاربة الأركيولوجية، مستحضرا في هذا الباب بحثا لعالمة الآثار الراحلة جوديا حصار بنسليمان التي أدارت معهد الآثار بالرباط.
نسبيّاتٌ علميّة
دافع عبد الجليل بوزوكار، في محاضرته بالمعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، عن مقاربة علمية للاكتشافات العلمية، وضرورة التنسيب؛ فـ”الأركيولوجيا كأي علم هي نتاج مقاربات، والبدايات تأثرت بالمقاربات السائدة”. كما أن الأركيولوجيا بالمغرب كانت مفتوحة على “العديد من الجبهات”؛ منها: “الاستقلال عن الآخر الأجنبي وخاصة الفرنسي، وإثبات الذات، ثم تطوير التعاون الدولي بشكل من التكامل فيه نوع من الندية”.
ومن أمثلة اختلاف النتائج باختلاف قدرات كل تقنية معتمدة، قدّم عالم الآثار مثالا بـ”القفزة” التي حدثت بين زمن “الاعتماد على الكاربون 14 في التحقيب”، ثم “الاعتماد على تقنيات أخرى”؛ فكانت النتيجة أن “نفس المواقع زاد عمرها ثلاث مرات، مع ما رافق ذلك من جهد هائل لإعادة كتابة ما كتبناه”.
ومن بين ما وضّحه بوزوكار أن علم الآثار “علم يتطلب وقتا طويلا وإمكانيات مادية كبيرة”، وقدّم مثالا باكتشاف جمجمة أقدم إنسان عاقل في جبل إيغود: “انطلقت الأبحاث في الستينيات، وعامل بسيط من اكتشف الجمجمة؛ هو سّي (السيد) الفاطمي، وليس عالم أركيولوجيا؛ وقدّم الجمجمة لطبيبٍ، لاحظ حجمها غير الطبيعي، وعرضها على معهد البحث العلمي بالرباط، حيث أقرّ باحث آخر بأنها قديمة… فهذا تراكم إذن نستفيد منه، وصولا إلى سنة 2017 تاريخ النشر العلمي، الذي قدّم نتائج أبحاث انطلقت في سنة 2004، بمعنى أن ما نقوم به، ونعيشه الآن، هو ثمرة أبحاث مضنية في مواقع مختلفة”.
الأركيولوجيا والتاريخ
في المغرب وجد علماء الآثار ما يدلّ على أقدم عملية جراحية تعود إلى 15 ألف سنة، وأقدم آثار للاستقرار منذ 15 ألف سنة، وأقدم إنسان عاقل عاش منذ 315 ألف سنة، وأقدم حلي في العالم تعود إلى 150 ألف سنة، وأقدم أدوات لصناعة الملابس منذ 120 ألف سنة، وأقدم مركب زراعي خارج منطقة النيل منذ 5 آلاف سنة، وأقدم استعمال طبي للنباتات منذ 15 ألف سنة، كما اكتشف مهد انطلاق الدولة الموحدية، وسلّطت اكتشافات الضوء على دور مدينة سجلماسة في ربط المغرب بعمقه الإفريقي، على سبيل المثال لا الحصر.
وتساءل المحاضر: “لِمَ لا نجد صدى لهذا التراكم في الكتابات التاريخية؟ هل هذا خطأ المؤرخين؟ أم خطأ واضعي البرامج والمقررات الدراسية؟ أم أن هناك نفورا من نتائج الأركيولوجيا؟ لا جواب لدي، لكن ينبغي التفكير في هذا وإيجاد أجوبة له”.
وأبرز عالم الآثار عبد الجليل بوزوكار: “هذا لا ينفي أنه اليوم توجد إرهاصات مدرسة مغربية في علم الآثار”، يمكن أن تسهم اكتشافاتها في كتابة تاريخ المغرب، بشرط هو “الانكباب على التاريخ المحلي والتاريخ الجهوي، قبل التصدي للتاريخ الشامل”، علما أن الاعتماد على التكنولوجيات الحديثة اليوم للبحث الأركيولوجي “لم تعد ترفا”؛ بل هي “ضرورة للتصدي للأسئلة الكبيرة والصغيرة، ومن بينها الخرائط التوقعية والخوارزمية التي توجّه اليوم أبحاثنا بشكل استباقي للمناطق التي قد تتعرض فيها المواقع لخطر الاندثار، مما يعالج معاناتنا السابقة من اندثار أو تضرر مواقع أثرية ويؤدي إلى عقلنة في تدبير الموارد وترشيد الإمكانيات”.
0 تعليق