أدركنا يا أبا يعزى بأسودك

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة

مما ينسب لأبي يعزى، قاهر الأسود، من كرامات أنه سمع ذات مساء، وقد عاد الرعاة بالقطيع، صخبا وجلبة وزئيرا، فلما خرج يستفسر عن هذا الذي يحدث، ازداد عجبه لما رأى الخرفان تثغوا، وهي لا يقر لها قرار، تحيط بها أسوده الأليفة، وزئيرها لا يكف.

كان الرعاة في حيرة من أمرهم لا يجدون تفسيرا لما يحدث، وعيونهم صوب مولاي بوعزة، وكأنها تستنجد.

طاف الصوفي، الأمي، بالقطيع، مستعرضا ملامحه التي يعرف جيدا؛ وفجأة توقف وهو يصيح في رعاته: هو ذا أخرجوه.

كان يشير إلى خروف بدا غريبا عن القطيع، وأكمل موضحا: لقد شرد عن قطيعه، أعيدوه إلى صاحبه، ثم أضاف: إنه حرام علينا، وهذا ما انتبهت له الأسود فأحدثت كل هذه الجلبة؛ حصنوا دائما الحلال من أن يخالطه الحرام.

ذكرتني بهذه الكرامة، وهي قوية الدلالة، صدقت أو لم تصدق، نوازل الفساد التي غدت طبقنا اليومي الذي نعاف.

كيف وصلنا إلى هذه اللحظة من زمننا، ولا حديث إلا عن فساد ظهر، وآخر سيظهر؛ وكأن الصلاح غدا بيننا مستحيلا، وكأن الصلحاء أشباح بيننا لا يراهم أحد؟

ومهما فسرنا طفرة الفساد هذه بالطفرة الرقمية التي تحيط بالحدث، وهو يحدث، وتكشفه لنا وللعالم بسرعة مذهلة؛ فهذا له تعلق بالذيوع فقط، أما الوقوع فثابت.

ومهما فسرناها بالنمو المتسارع للبلاد، ونشدان رغد العيش، من طرف الجميع، مهما وضحت السبل إليه، أو التبست، خصوصا مع وجود ضغط أغرابي كبير، تمارسه نماذج أثرت بسرعة، وارتقت اجتماعيا، حتى بدت بمثابة منارات ترسل نورها الجذاب لكل من يتخبط في يم الفقر والحرمان.

مهما قلنا بهذا يبقى حجة علينا، لا لنا؛ لأن تسارع النمو إن لم يواكبه حضور قوي للحكامة، والرقابة، محصنتين ارتقاء الأفراد اجتماعيا واقتصاديا، فسنكون كمن يغرس غابة وسط المدينة، تسرح فيها ضواري الوحوش على هواها، ولا سياج يحول بينها وبين الناس.

مع الأسف وصلنا إلى لحظة الحقيقة، التي تجعلنا نرانا إزاء مفترق طرق:

إما أن تعلن الدولة فشلها في محاصرة منابع الفساد، والفساد إياه، إذا لاح فيلا يدوس كل الخزف، ويمضي الهوينى باحثا عن فيلة.

وهذا لا يعني سوى نهاية العقد الاجتماعي، كما نظر له أصحابه، وعودة التوحش البشري.

وفي مخيالنا المغربي تحضر ثنائية بلاد السيبة وبلاد المخزن، وهي أوسع باب غزتنا منها كولونيالية القرن الماضي.

وإما أن نعلنها، كسابقتها، ثورة ملك وشعب، لمحاصرة كل هذا الفساد المستشري بيننا، كمؤسسات تداخلها مخربات تحفر أسسها رويدا رويدا، كفأرة سد مأرب الأسطورية.

وكمواطنين، نربي بيننا الفساد، في أسرنا؛ يولد، يحبو، ثم يمشي ويجري، على هواه.

ثم نضجر ونشتكي الحكومة، ومختلف المسؤولين، وكأنهم شياطين هبطوا من السماء.

والحال أنهم من أسرنا، وتربوا على يد أمهات وآباء.

إن الصالح تربى في هذه البلاد، والطالح لم يستفد من تربيته فيها.

إن الدودة التي تفسد التفاحة، من التفاحة إياها.

وهل نسكت هنا عن منظومة الحلال والحرام؛

والحال أن أغلب الإسمنت في صرح مجتمعنا من الدين؟

مرة أخرى أزفت ساعة الحقيقة، لنطرح سؤالا على كل مساجد البلاد، وزواياه؛ بل حتى على كل سجادة صلاة مشغلة:

هل فعلا لا تزال صنابير الدين تجري بماء العين الزلال، الذي يروي العقول لتنتج السلوك القويم؛ وهو الأساس في بناء المجتمعات والدول الراقية؟

ضيقوا معي مفهوم “القويم” حتى نستبعد ثنائية الجنة والنار؛ باعتبارهما مالا فرديا، تؤطره النصوص الشرعية المعروفة، والمفسرة على أوجه شتى.

أراني مضطرا لهذا التضييق لتسديد القصد، مستعيرا كلمة السيد وزير الأوقاف عن التبليغ.

كل الحصاد المجتمعي، والقضائي، يؤكد على أن الوازع الديني لم يترجم في بلادنا إلى سلوكات قويمة، تريح مؤسسات الرقابة والحكامة، لتتفرغ لفصول أخرى في النماء والارتقاء.

وكما القانون الذي انهارت هيبته، أو كادت، لم يعد الوازع الديني رادعا، ومنتجا للقوامة في السلوك.

ويتشابهان في وفرة النصوص القانونية، المتحركة والكسيحة؛ وحضور الأفعال التعبدية، بكثافة.

وإنها لمفارقة عويصة الفهم: لا القانون يردع الفساد، ولا الدين يقتله في النفس.

نحتاج طبعا لأسود أبي يعزى، دفين ايروجان، لتتصدى فاضحة كل خراف الفساد.

الأسود التي هيجها وجود خروف شارد ضمن قطيع ولي الله.

لا حل إلا في تسديد دولة الحق والقانون، لتشتغل، ليس فقط كأسود أبي يعزى، بل كذكاء اصطناعي يحتكم إلى خوارزميات، في طريقها لتصبح ذاتية، تطور نفسها بنفسها.

يبدو قضاؤنا سلحفاتي الحركة، في مواجهة فساد بسرعة أرنب. في هذه لن تكسب السلحفاة السباق، كما حصل في الحكاية.

أدلي هنا بما يؤكد نظرتي هذه:

بعد سقوط شبكة الاتجار الدولي بالمخدرات، وتسلم القضاء لأذرعها، ليعمل فيها حكم القانون، تصورت أن الأيام البيض حلت، ولن نشهد مستقبلا نوازل مخدراتية أكبر. العكس هو الذي حصل، والخبر عند شرطة القنيطرة، أكثر من غيرها.

هي إلى اليوم لا تكف عن حجز كميات فرعونية، رغم موقعها، المحاط بآلاف وآلاف نقط المراقبة.

وانتقل الأمر إلى تسريبات، من هنا وهناك، تتحدث عن شحنات وشحنات؛ منطلقة من… وستصل إلى… وهي لفلان من الأباطرة، ومؤمنة من طرف هذا أو ذاك من ذوي السلطة.

وعليه فتأسيس قضاء سريع وذكي، لمواجهة الفساد بأشكاله، بات أمرا ملحا.

أقسام ضمن محاكمنا، تتوفر لها إمكانيات حقيقية لقضاء الاستعجال.

قضاة ذكاء اصطناعي يبرمجون خوارزميات قانونية، ستدخل كل البروتوكول الأمني، والدركي، والقضائي لتحقيق النجاعة السريعة.

المساطر الحالية ثقيلة كما وكيفا، في مواجهة فساد يتحرك بسرعة فائقة، ويرتقي ضمن المؤسسات، وصولا حتى إلى الجامعة، التي كنا نخالها ملحا لصيانة الطعام، فإذا بها عنصر إفساد.

وإذا فسد الملح فبماذا يملح، كما يرد في الإنجيل.

إذا التحم قضاء الذكاء الاصطناعي، هذا، مع القرار السياسي المعلن، إنذارا وطمأنة للجميع، فإنها ستكون بحق ثورة ملك وشعب أخرى.

وإذا تحقق استقلال المغرب، عن الفساد هذه المرة، فقد اكتمل.

منا الفساد، ويجب أن يكون منا الصلاح المصلح.

أخبار ذات صلة

0 تعليق