عندما ذهبت إلى فرنسا لمتابعة دراستي هناك كان اليمين المتطرف الفرنسي حينذاك مجسدا في حزب “الجبهة الوطنية” بزعامة مؤسسه جان-ماري لوبين، وكان وقتها لا يتعدى كونه تنظيما سياسيا باهتا ينشط على هامش الخارطة الحزبية للبلد، والمرجعية الأساسية التي يستند إليها هي إيديولوجية اليمين المتطرف كما عرفتها فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية أيام هيمنة نظام فيشي في فرنسا تحت قيادة المارشال بيتان المتواطئ مع النظام النازي في ألمانيا والمتماهي مع الرايخ الثالث في تمجيده للجنس الآري وعدائه لليهود. فكان من الطبيعي أن يختزل حزب لوبين برنامجه في شعارات من قبيل “الفرنسيون أولا” وأن ينادي بالرجوع إلى “الهوية الفرنسية” الأصيلة وضرورة العمل على التحرر من “الاستعمار العكسي” (الشعوب التي كانت في سالف الأيام تحت الاستعمار الفرنسي أرسلت مهاجريها إلى فرنسا ليستعمروها بدورهم وذلك بغزوها تدريجيا وفي الخفاء بعاداتهم ودينهم إلى أن تنطمس هويتها وتصبح أمة هجينة لا روح فيها) وتطويق مختلف “الشوائب” التي جاءت على مر الأجيال لتتغلغل في الكيان الفرنسي لتشوهه وتلوثه، وأن يذهب لوبين إلى حد القول بأن الفحص عن كثب لتاريخ الحرب العالمية الثانية لا يترك مجالا للشك في أن “المحرقة” لا تستحق كل هذا الاهتمام وبأنها تبقى في النهاية “تفصيلا” ليس إلا. من هنا كذلك أصبح من الضروري بالنسبة لممثلي “الجبهة الوطنية” المناداة بسياسة حمائية والخروج من السوق الأوروبية والتخلص من “اليورو” والرجوع إلى “الفرنك الفرنسي”. ولا أدل على أهمية مفهوم “الهوية” لسائر التشكيلات السياسية المحسوبة على اليمين المتطرف من أن بعض الجماعات بدأت تجعل منه اسما لها، ومن أن وسائل الإعلام لا تتردد في استعمال مفردة “هويايتة”(identitaires) للحديث عن مختلف الفصائل المشكلة لليمين المتطرف.
ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية المتجذرة في البلد واستفحال البطالة وتآكل الحضور الفرنسي في الساحة السياسية الدولية وخفوت الإشعاع الثقافي الفرنسي، بدأ خطاب اليمين المتطرف يجد آذانا صاغية في أوساط شرائح واسعة من المجتمع الفرنسي وبدأ صوته يُسمع ويحسب له حساب في مجلس النواب (خاصة بعد الفوز الذي حققه في الانتخابات التشريعية لسنة 1986)، والقول ذاته ينطبق على الانتخابات البلدية، ما مكن ممثلين عن الحزب ذاته من إمساك زمام الأمور على رأس البلديات والمجالس الجهوية، بحيث إن “الجبهة الوطنية” بدأت تحتل حيزا لا يتوقف عن التوسع في الفضاء السياسي الفرنسي (تمكن لوبين من المرور إلى الدور الثاني في الانتخابات الرئاسية لسنة 2002 على حساب المرشح الاشتراكي آنذاك ليونيل جوسبان) وتزاحم قوى اليمين (خاصة حزب “التجمع من أجل الجمهورية” بزعامة جاك شيراك) التي وجدت نفسها مرغمة على تطعيم برنامجها بشعارات كانت في الأمس حكرا على اليمين المتطرف ولا يمكن لأي مسؤول سياسي ينتمي لليمين “الجمهوري” أن يرفع عقيرته بها دون أن يجد نفسه منبوذا ومهمشا. وهكذا أصبح بمقدور جاك شيراك في خطاب (“خطاب أورليان”) ألقاه سنة 1991 (لتعزيز حضوره في السباق الرئاسي الذي سينتهي فعلا بفوزه سنة 1995) أن يتفوه دون أن يرف له جفن بعبارات راجمة اتجاه المهاجرين “المسلمين” و”السود” الذين يعيشون مع “ثلاث وأحيانا أربع زوجات” و”يعيشون فقط على المساعدات الاجتماعية” التي تمنحها لهم الدولة ناهيك عن “الضجيج والروائح”، وأن يؤكد صديقه الأقرب، شارل باسكوا ‒الذي سيصبح فيما بعد وزير الداخلية في حكومته والذي دأب كذلك ومنذ قت مبكر المناداة بتقارب اليمين “الجمهوري” مع اليمين المتطرف‒ بأن حزبه، “التجمع من أجل الجمهورية”، و”الجبهة الوطنية” “يتشاركان القيم ذاتها”. وكثيرا ما علق لوبين ساخرا من مساعي اليمين “الجمهوري” لاستنساخ برنامجه قائلا بأن الفرنسيين “سيفضلون دائما الأصل على النسخة”. وهذا التقارب سرعان ما تحول ليصبح تماهيا بظهور نيكولا ساركوزي في المشهد السياسي، فهو لم يصبح رئيسا للجمهورية سنة 2007 على حساب المرشحة الاشتراكية سيغولين روايال إلا باستقطابه أصوات اليمين المتطرف، ما شجعه على إعادة الكرة بنبرة أشد شراسة في حملته الانتخابية للفوز بولاية ثانية في الانتخابات الرئاسية لسنة 2012، وذلك ببلورة خطاب أشد وقعا مما كان يُسمع في عهد جاك شيراك يتمحور أساسا حول مفهوم “الهوية الفرنسية”، وذلك لسحب البساط تحت أقدام “الجبهة الوطنية” والاستحواذ على قاعدتها الانتخابية.
إذ إنه أصدر أمرا بأن تعقد ندوات في مختلف المدن الفرنسية للنقاش حول مفهوم “الهوية الفرنسية”، إلا أن المشروع بقي حبرا على ورق ولم يكتب له أن يرى النور ويُنزل على أرض الواقع. إلا أن مجرد إثارة الفكرة وتغطيتها إعلاميا على مستوى كبير (فصاحبها كان وقتذاك رئيس الجمهورية) كان كفيلا بخلق الوقع المنتظر لدى منتخبي اليمين المتطرف بدغدغة حواسهم وإقناعهم بتحويل أصواتهم لصالح ساركوزي على حساب مارين لوبين التي خلفت أباها على رأس “الجبهة الوطنية” وعقدت العزم على إعادة صياغتها على نحو يجعلها أكثر أهلية للحكم، ما يعني أكثر برغماتية (عملت كل ما في وسعها لإقصاء والدها وعزله، غيرت اسم الحزب ليصبح “التجمع الوطني”، “تصالحت” مع اليهود وسعت لتشكيل جبهة يمينية متطرفة-يهودية ضد الإسلام والعرب ما لبثت أن وجدت تجسيدها الأقوى في شخص الصحافي اليهودي إريك زيمور الذي استقل لاحقا وأسس حزبا خاصا به تحت اسم “الاسترجاع” ولا داعي للقول بأن ما يبرمج الحزب لاستعادته هو “الهوية الفرنسية” التي وطبقا لما جاء في مؤلف الصحافي ذاته “الانتحار الفرنسي” اضمحلت وتلاشت). كما أن طبيعة العناصر الدخيلة التي تهدد “الهوية الفرنسية” بدأت تتضح أكثر بالتشديد على الإسلام، وهذا ما عبر عنه أحد المقربين من ساركوزي وهو كلود غيان بقوله بأن “الحضارات لا تتساوى من حيث القيمة”، خاصة فيما يتعلق بوضعية المرأة، ما يشكل في الوعي الجمعي الفرنسي إشارة واضحة إلى الحضارة الإسلامية.
الاهتمام عن كثب بنموذج بهذه القوة والوضوح من شأنه أن يعزز الأطروحة التي مفادها: زئبقية مفهوم “الهوية” وبقاؤه أبدا عصيا عن أية محاولة تشخيص وترجمة في معطيات سوسيو-اقتصادية ملموسة وفقدانه لأي طابع إجرائي، يفسر كيف أن المناداة بالدفاع عن الهوية من طرف مجموعة ما بغض النظر عن حجمها ومدى قوة حضورها لا يمكن لها أن تستقيم وتتشكل في خطاب ‒قوته كأغلب الخطابات أن لا يُقنع سوى المتلقين المستعدين مسبقا وحتى قبل أن يسمعوه للاقتناع به‒ دون وجود “آخر” تستند إليه ويُسهل عليها حشد المتلقين لا بالرجوع إلى ما يحدد الجماعة المعنية إيجابيا، وهذا يبقى في جميع الأحوال في حكم المستحيل، ولكن سلبيا، أي إلى ما يميزها عن “الآخر”. بتعبير أوضح، لا تلجأ الجماعات إلى التميز عن “الآخر”، إلا لأن لا سبيل لها إلى جمع كل مكوناتها في كيان موحد ومنسجم يكون أفراده دائما مستعدين للتعالي على تناقضاتهم وتجاهل تباين مصالحهم ومواقفهم وطموحاتهم وولاءاتهم ليصبحوا على قلب رجل واحد ويجدون أنفسهم في “هوية” محددة يجمعون عليها. وهذا ما يفسر ظاهرة “كبش الفداء” التي مكنت الشعوب والجماعات على مر التاريخ من خلق “آخر” كلما احتاجوا لوجوده على نحو من الأنحاء.
وبناء على ما سبق، فالسؤال الذي يجب طرحه فيما يخص النموذج المغربي، هو ما هي طبيعة المكون الذي يعطي لنفسه الحق في تجاهل كل ما يطبع المجتمع المغربي من تباينات أفقية (الانتماءات الجغرافية والدينية واللغوية والميول السياسية والعادات والتقاليد والولاءات والطموحات والتطلعات) وتناقضات عمودية تتمحور أساسا حول توزيع الثروة ببعديها المادي والرمزي بين أفراد المجتمع وما يدور في فلكها من امتيازات وسلطة، من جهة، ومن مظاهر التهميش والإقصاء والاستغلال، من جهة أخرى، ويجرد المجتمع من تاريخانيته باختزال كل الأطياف المتفاعلة فيه في مفردة واحدة وهي “تمغربيت”؟ بتعبير آخر، من هو هذا المكون الذي يظهر من أشكاله الخطابية على اختلافها وتعدد السبل الملتوية والأساليب المغتصبة التي يلجأ إليها أن همه المحوري هو التموضع بقوة مقابل “آخر” بعينه ليجعل منه عنصرا دخيلا يجب التخلص منه حتى تستعيد النواة الأصلية ل”تمغربيت” نقاوتها وصفاءها وذلك بالتشكيك في مشروعية قضاياه المصيرية والسعي للنيل من العقيدة التي جاء حاملا رايتها وهو “يحتل” البلد؟ ليس من المبالغة في شيء القول بأن الجواب عن هذا السؤال يكمن في شعار واحد بدائي الصنع إلى حد السخافة والشفافية في آنࣲ، ما يمكننا من المضي قدما فيما نحن بصدده، شعار يحث على الفصل بين “تازة” و”غزة” وإعطاء الأفضلية للأولى على الثانية ولا يتردد حاملوه في التعامي عن جرائم أحد أبشع أشكال الاحتلال في التاريخ الحديث وخطب ود مرتكبها الصهيوني والتملق إليه ليس من أجل سواد عيون الصهاينة ولكن تماشيا مع المبدأ الذي لا يقل بدائية عن الشعار والذي يقول “عدو عدوي صديقي”، وفي وضع أنفسهم في مواقف هزلية تستدعي الضحك أكثر من أي شيء آخر كالمناداة بالوقوف في وجه “التزمت الديني” في بلد يُضرب به المثل في الاعتدال والوسطية (ولو كان الأمر غير ذلك لما تمكنوا من الركوب على نقاشات كالإفطار العلني والدلو بدلوهم فيها علنا وعلى مرأى ومسمع من السلطات) والركوب فجأة على مفاهيم (“الحداثة” و”الإصلاح”، وما شاكلهما) لها منظروها الذين يؤمنون بها فعلا إلى حد أنهم كرسوا مؤلفات لبلورتها وصقلها. وما يُرغمهم على التوسل بهذه الأساليب الملتوية في تعاملهم مع عقيدة “أهل غزة” هو أنهم يعرفون أنها تستمد مشروعيتها من مشروعية النظام الحاكم وبأنها تبقى في النهاية خطا أحمر لا مفر لهم من أخذه بعين الاعتبار والتعامل معه بحذر.
سؤال آخر لا يمكن بأية حال الالتفاف عليه عندما يتعلق الأمر بمسألة الهوية، خاصة وأنه من شأنه أن يساعدنا على وضع المفاهيم الفضفاضة وحتى العبثية التي نحن بصددها على المحك، ألا وهو: من أين ستشرع عملية التنقيب عن “تمغربيت” وأين ستنتهي؟ هل يجب الشروع بالتخلص من الشريحة التي تشكلت خلال الحقبة الطويلة التي كان فيها البلد تحت رحمة القوى الغربية والتي لم تنتظر مرحلة الحماية لبسط هيمنتها والتأثير بشتى الطرق والوسائل في “هوية” المجتمع المغربي؟ وبالمقابل، هل يجب التوقف عن التنقيب عن “تمغربيت” مع وضع اليد على الشريحة التي لم يتوقف “أهل غزة” على تشكيلها منذ الفتح الإسلامي حتى وقتنا الحاضر، أم يجب الاستمرار في التنقيب في الأعمق والبحث عما جاء به أقوام آخرون خالطوا سكان البلد “الأصليين” قبل “أهل غزة” ومنهم من حمل معه حضارة قوية وضاربة في القدم كالرومان على سبيل المثال وكان من الطبيعي أن يسهموا هم كذلك على نحو من الأنحاء في بلورة نواة “تمغربيت”؟
وعليه، أليس من الحكمة القبول بفكرة أن السبيل الوحيد للتعامل مع مفاهيم من قبيل “الهوية” و”الأصل” هو إخضاعها باستمرار لمراجعة نقدية تفكيكية وبأن لا جدوى للتفكير في بناء مشروع مجتمعي كيفما كانت طبيعته انطلاقا منها ومن مفاهيم مماثلة أثبتت التجارب التاريخية السابقة أنها كانت دائما مرشحة لأن تصبح، حالما يضمحل الحكم المركزي لبلد ما أو فقط تتقلص سلطته، مجرد ذرائع لنسف التساكن الاجتماعي و”تصفية الحسابات” في صراعات دموية يعرف الجميع كيف ومتى تبدأ ولا أحد يعرف كيف ومتى تنتهي.
النشرة الإخبارية
اشترك الآن في النشرة البريدية لجريدة هسبريس، لتصلك آخر الأخبار يوميا
اشترك
يرجى التحقق من البريد الإلكتروني
لإتمام عملية الاشتراك .. اتبع الخطوات المذكورة في البريد الإلكتروني لتأكيد الاشتراك.
لا يمكن إضافة هذا البريد الإلكتروني إلى هذه القائمة. الرجاء إدخال عنوان بريد إلكتروني مختلف.
0 تعليق